عقدة ستوكهولم العربية- أسر الاستبداد في وعي الشعوب

إن متلازمة ستوكهولم ليست مجرد حالة نفسية فردية معزولة، بل هي ظاهرة معقدة يمكن من خلالها فهم ديناميكية العلاقة الشائكة بين المجتمعات العربية وأنظمتها الاستبدادية. في هذا التحليل المعمق، سوف نتناول الأسباب الجذرية التاريخية والاجتماعية التي أدت إلى نشوء هذه المتلازمة وتداعياتها الخطيرة على الشعوب العربية. كما سنستعرض أمثلة متنوعة من أنظمة قمعية حول العالم لتكوين رؤية أشمل وأعمق لهذه الظاهرة اللافتة للنظر.
تُعرّف متلازمة ستوكهولم بأنها استجابة نفسية معقدة وغير متوقعة، حيث يبدأ الضحية في إظهار مشاعر التعاطف، بل وحتى الإعجاب، تجاه المعتدي أو الجاني. وفي السياق العربي، يمكننا تطبيق هذا المفهوم على العلاقة المتوترة بين المواطنين وأنظمة الحكم القائمة.
على الرغم من الممارسات القمعية المتنوعة التي تمارسها الأنظمة الحاكمة في العديد من الدول العربية، والتي تشمل القمع السياسي، والتضييق الاجتماعي، والإجحاف الاقتصادي، فإن الكثير من الناس يظهرون نوعًا من التعاطف مع هذه الأنظمة، بل إن بعضهم يدافع عنها بشراسة. هذا التعاطف الغريب ينبع من مجموعة من العوامل المتداخلة، بما في ذلك الخوف العميق من المجهول وما قد يجلبه من فوضى واضطرابات، والتوجس من الفراغ الذي قد ينشأ في حال سقوط النظام القائم، بالإضافة إلى الاعتقاد الراسخ بأن القمع هو الضمانة الوحيدة للاستقرار والسلام في ظل غياب عقد اجتماعي واضح المعالم بين الدولة والمجتمع.
أحد الأسباب الرئيسية التي تفسر انتشار هذه المتلازمة في السياق العربي هو الإرث السياسي الثقيل الذي ورثته الشعوب العربية. فقد عانت هذه الشعوب من فترات طويلة من الاستعمار الأجنبي والحكم الاستبدادي المحلي، وهو ما ساهم في ترسيخ هذه المتلازمة وتعميق جذورها. على سبيل المثال، رزحت الجزائر تحت نير الاستعمار الفرنسي لأكثر من مئة وثلاثين عامًا، وهي فترة طويلة خلفت جراحًا عميقة وندوبًا نفسية واجتماعية ما زالت تؤثر على المجتمع الجزائري حتى اليوم، وعمقت الشعور بالعجز والاستسلام. وبعد الاستقلال، استلمت أنظمة محلية مقاليد السلطة، لكنها للأسف الشديد استمرت في تبني أساليب القمع والاستبداد، مما جعل العلاقة بين السلطة والشعب تتخذ نمطًا ثابتًا ومستمرًا من التبعية والخضوع.
في ظل هذه الأنظمة القمعية، يُستخدم الإعلام كسلاح فعال للسيطرة على العقول وتوجيه الوعي الجمعي، وتشكيل الرأي العام بطريقة تخدم مصالح النظام وتبرر أفعاله. في العديد من الدول العربية، تفرض الأنظمة رقابة مشددة على جميع وسائل الإعلام، وتستخدمها لنشر الخوف والرعب في قلوب المواطنين، وتشويه الحقائق وتزييفها، وتقديم صورة وردية للقادة على أنهم "الأبطال" الذين يسهرون على حماية استقرار البلاد والحفاظ على وحدتها، بينما يتم تصوير المعارضة على أنها تهديد خطير للأمن القومي.
هذا التوجيه الإعلامي الممنهج والمتواصل يعزز من مشاعر الخوف والقلق لدى الشعوب، ويجعلها تنظر إلى القمع على أنه ضرورة حتمية لضمان استمرار الاستقرار والحفاظ على الأمن.
بالإضافة إلى السيطرة المحكمة على وسائل الإعلام، تحتكر الأنظمة الاستبدادية الموارد الاقتصادية الهامة، وتربط بشكل وثيق استقرار الحياة اليومية للمواطنين بالتبعية المطلقة لها. لا يحصل المواطن على فرص عمل جيدة أو امتيازات مالية مجزية أو خدمات اجتماعية لائقة إلا إذا كان مواليًا للنظام، ويخلق هذا نوعًا من الاعتماد المادي القوي على النظام، بحيث يصبح الحفاظ على الوضع الراهن ضروريًا للغاية لضمان استمرار حياته الاقتصادية.
أحد الدوافع الرئيسية التي تساهم في ترسيخ متلازمة ستوكهولم هو الخوف المتجذر من الفوضى والمجهول. في العديد من الدول العربية، تقوم الأنظمة الحاكمة بتشويه صورة الحركات الثورية والإصلاحية، وتقديمها على أنها غير قادرة على تقديم بديل مستقر وموثوق به، وتخويف الشعوب من أن محاولة تغيير النظام أو الأوضاع القائمة قد تؤدي إلى الانزلاق إلى حروب أهلية مدمرة، أو تدخلات أجنبية سافرة، كما حدث للأسف في دول مثل العراق، وسوريا، وليبيا، واليمن.
هذا الخوف الشديد يجعل الشعوب تتردد في المطالبة بالتغيير، وتفضل التعايش مع القمع والاستبداد على مواجهة مستقبل غامض وغير مستقر.
تشبه هذه الظاهرة إلى حد كبير ما يحدث في بعض الأنظمة القمعية الأخرى حول العالم، مثل كوريا الشمالية. هناك، يعيش الشعب تحت سيطرة الدولة المطلقة والشاملة، وتستخدم وسائل الإعلام للدعاية المستمرة والمكثفة للزعيم الأوحد. ويعيش الشعب في عزلة تامة عن العالم الخارجي، مما يؤدي إلى تعميق الشعور بالاعتماد على الدولة والخوف الشديد من أي تغيير محتمل.
وعلى الرغم من المعاناة اليومية التي يعيشها المواطنون، فإن الكثير منهم يعبرون عن دعمهم وتعاطفهم مع الحكومة التي تسيطر على كافة جوانب حياتهم. وعلى الرغم من أن وسائل الإعلام الغربية تلعب دورًا كبيرًا في تقديم صورة قاتمة ومشوهة عن النظام الحاكم في بيونغ يانغ، فإن تحول النظام إلى شكل من أشكال الحكم الوراثي وتقديس شخصية الزعيم والاستسلام التام له يظهر جانبًا من الطبيعة الشمولية لمثل هذا النظام الذي يجعل الشعب يعيش في حالة من متلازمة ستوكهولم.
مثال آخر جدير بالذكر هو النظام السوفياتي السابق، حيث كان يتم قمع المعارضة بوحشية وقسوة، وكانت الدولة تتحكم بشكل كامل في الإعلام والاقتصاد. وكان المواطنون الذين عاشوا في تلك الفترة يرون في الدولة الحامي الوحيد لهم من التهديدات الخارجية، مثل الإمبريالية الغربية. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، عانت بعض المجتمعات من فوضى اقتصادية وسياسية عارمة، مما دفع بعض الأفراد إلى الحنين إلى تلك الحقبة المظلمة، على الرغم من قمعها واستبدادها.
تتجلى تأثيرات متلازمة ستوكهولم على المجتمعات العربية في عدة مظاهر واضحة:
- أولها التسليم والاستسلام للواقع القمعي، فعندما تعيش الشعوب تحت القمع لفترات طويلة من الزمن، فإنها تعتاد على العيش في ظل القهر، وتضعف قدرتها على التفكير النقدي أو السعي للتغيير. ويصبح القبول بالواقع المرير هو الخيار الوحيد المتاح أمامها.
- وثانيها هو ما تؤدي إليه من تفكك اجتماعي وسياسي خطير، فالمجتمع ينقسم إلى مؤيدين للنظام يرون في القمع وسيلة ضرورية للحفاظ على الأمن، ومعارضين يائسين يسعون للتغيير بأي ثمن. ويؤدي هذا إلى تعميق التوترات والانقسامات داخل المجتمع، ويزيد من حدة الصراعات الداخلية.
- وثالثها: أنها تعزز بقاء النظام القمعي واستمراره في السلطة، فعندما يتعاطف الشعب مع ذلك النظام، يصبح من الصعب للغاية تحقيق التغيير المنشود. تفشل الحركات الإصلاحية أو الثورية في جذب الدعم الشعبي الواسع، مما يتيح للنظام فرصة ذهبية للبقاء واللعب على التناقضات المجتمعية.
ولكن، كسر هذه المتلازمة ليس مستحيلًا على الإطلاق. التعليم والتوعية هما المفتاح الأساسي لتحرير الأفراد من تأثيرات متلازمة ستوكهولم. يجب تعزيز التفكير النقدي وتشجيع الأفراد على تعلم حقوقهم المدنية والسياسية، كما ينبغي على المؤسسات التعليمية أن تسعى جاهدة لبناء جيل جديد واعٍ ومثقف يفهم أهمية الحرية والديمقراطية في الحياة الاجتماعية.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن للمجتمع المدني أن يلعب دورًا حيويًا وهامًا في تغيير العقليات المجتمعية، فمنظمات حقوق الإنسان والأحزاب السياسية المستقلة والجمعيات الأهلية، يمكن أن تساهم بشكل فعال في نشر الوعي العام والمطالبة بالتغيير.
وللتغلب على الخوف من التغيير والفوضى، يجب أن تنظر المجتمعات إلى تجارب دول أخرى نجحت في الانتقال من الأنظمة القمعية إلى الديمقراطية دون الوقوع في الفوضى والاضطرابات. تعزيز الثقة في أن البديل يمكن أن يكون أفضل بكثير هو أمر أساسي لدفع المجتمعات نحو التغيير، وكسر تلك الحلقة المفرغة التي تبقيها في قبضة القمع والاستبداد.
في الختام، يمكن القول بثقة إن متلازمة ستوكهولم لدى الشعوب العربية ليست مجرد انعكاس للعلاقة النفسية المعقدة بين الضحية والجاني، بل هي نتاج لظروف اجتماعية وتاريخية وسياسية متشابكة ومعقدة.
الأنظمة القمعية تستخدم الخوف والتحكم في الإعلام والموارد الاقتصادية لتعزيز تبعية الشعوب لها وإحكام قبضتها عليها. وهو ما يفسر في جوانب عديدة منه فشل الربيع العربي، وعودة الدولة التسلطية إلى طبيعتها المستبدة، مثلما عادت حليمة إلى عادتها القديمة.
ورغم ذلك، فإن التغلب على هذه المتلازمة ممكن من خلال التعليم والتوعية، وإعادة بناء الثقة في البدائل السياسية والاقتصادية، وفي إمكانية التغيير السلمي للأوضاع، مهما بلغ سوؤُها وتفاقمت قسوتها واستبدادها.